الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة عمل الأسكركة وبيعها: قال محمد بن رشد: الأسكركة هي الغبيراء التي سئل عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما ذكره مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، فقال لا خير فيها ونهى عنها. وهو شراب يعمل من الأرز. روي عن صفوان بن محرز قال، سمعت أبا موسى يخطب على هذا المنبر وهو يقول: ألا إن خمر أهل المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البتع وهو العسل، وخمر الحبشة الأسكركة وهو الأرز. وقد قيل في الأسكركة: إنه نبيذ الذرة، وقيل: إنها التي تسمى بمصر فقاع الشعير. فالأسكركة وسائر الأنبذة والأشربة التي تسكر بمنزلة الخمر في تحريم القليل والكثير منها. «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البتع قال: كل شراب أسكر فهو حرام» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». فلا يحل عمل شيء من الأنبذة المسكرة ولا بيعها؛ لأنها بمنزلة الخمر في تحريم عينها، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها». وخالف أهل العراق في ذلك فأباحوا من الأشربة المسكرة ما دون السكر، وقالوا الخمر المحرمة العين إنما هي خمر العنب. ومنهم من قال خمر العنب والتمر، وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بما روي عن ابن عباس أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها أو من كل شراب. وهذا لا حجة فيه؛ لأن بعض الرواة يقول فيها: والمسكر من غيرها أو من كل شراب على اختلاف الرواية في ذلك. وقولهم خطأ لا وجه له؛ لأنهم خالفوا الآثار الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك التي ذكرناها وتركوا القياس الذي يعتمدون عليه، وهو أن العلة التي من أجلها حرمت الخمر هي الإسكار والشدة المطربة المؤدية إلى العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة موجودة في الأنبذة المسكرة، فوجب أن يكون لها حكمها ووجود العلة فيها. وإذا كان الذي لا يسكر لما دون عشرة أكواس من النبيذ إنما يحرم عليه الكأس العاشر وحده عندهم من أجل أنه سكر به، وجب بالقياس الصحيح أن تحرم عليه جميع العشرة الأكواس، إذ لم يسكر بالعاشر وحده، وإنما سكر بإضافته إلى التسعة المتقدمة. ألا ترى لو اجتمع تسعة رجال على حجر فلم يقدروا على رفعه فجاء رجل عاشر فرفعه معهم لا يصح في عقل عاقل أن يقال إن العاشر هو الذي رفعه، وهذا أبين من أن يحتاج إلى بيانه، وبالله التوفيق. .مسألة انتقاص الخير من الناس: قال محمد بن رشد: يشهد بصحة قول ابن عمر هذا قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وقول عبد الله بن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده شر منه ولن تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، وليس عبد الله أنا إن كذبت. وبالله التوفيق. .مسألة ما يلزم من تحسين الظن: قال محمد بن رشد: هذا كلام صحيح يشهد لصحته قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالله التوفيق. .مسألة كراهة عمر رضي الله عنه أن يستأثر بمنفعة شيء في مال الله عن المسلمين: قال أصبغ وحدثنا أشهب عن سعيد بن عبد الله عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب أتي بمسك فجعل يقسمه ويجعل يده على أنفه يغطيه هكذا ووضع أشهب بذارعه وكمه على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك؟ فقال: وهل ينتفع من المسك إلا برائحته. وقد فعله عمر بن عبد العزيز في خلافته. قال محمد بن رشد: لأن هذا من فعلهما جميعا نهاية في الورع والزهد؛ لأن حرمان أنفسهما من أن يشتما ما يثور من رائحة المسك في قسمته لا يزيد في المسك ولا في رائحته ولا ينقص من ذلك شيئا، وبالله التوفيق. .مسألة البداية بالأيمن فالأيمن: قال محمد بن رشد: استحب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ ولم يوجبه في محض الدين والفقه والعلم، إذ قد يكون في غير اليمين من يكون أحق أن يبدأ به لعلمه وخيره وسنه، فإذا استوت أحوال المجتمعين أو تقاربت كانت البداية باليمين مما يستحب في مكارم الأخلاق، لما في ذلك من ترك إظهار ترفيع بعضهم على بعض بالتبدئة به. وأما إذا كان فيهم العالم وذو الفضل والسن فالسنة في ذلك أن يبدأ به حيثما كان من المجلس، ثم يناول هو من كان على يمينه كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذ أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشربه ثم أعطاه الأعرابي، وقال الأيمن فالأيمن» ولا يعطي الذي على يساره وإن كان أحق بالتبدئة من الذي على يمينه لعلمه وخيره وسنه إلا بعد أن يستأذنه في ذلك، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده.» وقوله في الرواية: أو الوضوء، يريد غسل اليد في الاجتماع للطعام، وبالله التوفيق. .مسألة اتباع عمر بن عبد العزيز سنن عمر بن الخطاب: قال محمد بن رشد: كان عمر بن عبد العزيز يتبع عمر بن الخطاب ويقتدي به في أقضيته وأفعاله. وقد سمع عمر بن الخطاب وهو يقول: عمر عمر، من ذا عمر، يسير بسيرة عمر. وذلك نحو ما جاء عنه من قوله وهو يخطب بالمدينة: يا سارية الجبل، حسبما مضى القول فيه في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم. أما دعاء عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت فقد تكرر ذكر ذلك عنه، ومضى القول فيه في رسم البز ورسم طلق ابن حبيب من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة ما يحكى عن بعض المتقدمين قوله في سجوده: قال محمد بن رشد: إنما يبعث على هذا القول شدة الخوف لله، واليقين بما عند الله، مع الاجتهاد في عبادة الله، وبالله التوفيق. .مسألة العبد بين الجنة والنار لابد له من أحدهما: قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قال الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] طريق الخير والشر، فإن عمل بطاعة الله صار برحمة الله عز وجل إلى رحمة الله، وإن عمل بمعاصيه استوجب العقاب من الله. وقال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وقال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] وبالله التوفيق. .مسألة السوداء السائلة: قال محمد بن رشد: إنما لم يوجب عليها في يمينها بالله الكفارة لأنها كانت ناسية، فكانت اليمين لغوا، وأوجب عليها المشي إلى بيت الله لأنه لا يكون اللغو في المشي ولا فيما سوى اليمين بالله. فلما قالت له إنها لا تقدر على المشي، قال تركبين وتهدين، فلما قالت له إنها لا تقدر على شيء وهي ترعد فزعة من أن تكون قد وقعت من الإثم فيما لا مخلص لها منه، قال لها لا شيء عليك، أي لا إثم عليك في ركوبك إذا لم تقدري على المشي، ولا في ترك الهدي إذا لم تقدري عليه، يريد حتى تجدي وتقدري، بين ذلك قوله لها في سماع أشهب من كتاب الحج: وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي وأمرها أن تركب وتهدي ولم يقل بعد أن تمشي ما قدرت وهي إرادته، ولم يقل إنها ترجع ثانية، فيحتمل أن يكون إنما لم يأمرها بذلك لأنه رأى من حالها أنها لا تقدر على أن تمشي الطريق كله في مرة واحدة ولا تقدر عليه في مرتين، إذ لم يختلف قوله في أن الحالف بالمشي إذا لم يقدر على أن يمشي الطريق كله في مرة واحدة وقدر عليه في مرتين، أن عليه أن يرجع ثانية لإتمام المشي، ويرى عليه مع ذلك الهدي لتفريق المشي. وأهل المدينة سواه يرون عليه الرجوع ثانية دون الهدي، وأهل مكة يرون عليه الهدي دون الرجوع. ومن أهل العلم من لا يوجب الهدي ولا الرجوع، ومنهم من لا يوجب عليه المشي باليمين ويرى فيه كفارة يمين، ومنهم من لا يرى فيه كفارة ولا شيئا. ومذهب مالك أن ما لزم بالنذر يلزم باليمين. وما ذكره عن مالك من أنه كان لا يرفع بصره إلى امرأة هو الواجب، لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وقد صرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجه الفضل إلى الشق الآخر لما أتته امرأة من خثعم تسفتيه وهو راكب خلفه فجعل ينظر إليها وتنظر إليه، وبالله التوفيق. .مسألة بيع الكتاب فيه التوراة والإنجيل: قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يحل له أن يبيع الكتاب الذي فيه التوراة أو الإنجيل من اليهود أو النصارى ولا يأكل ثمنه صحيح بين لا إشكال فيه؛ لأن دين الإسلام ناسخ لجميع الأديان، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، والقرآن ناسخ لجميع الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء- عليهم الصلاة السلام- فلا يحل أن يباع شيء منها ممن يعتقد العمل بما فيها ويكذب بالقرآن الناسخ لها، هذا ولو صح أنها توراة أو إنجيل، فكيف ولا يصح ذلك، إذ لا طريق إلى معرفة صحته، بل قد علم بما أعلم الله في محكم كتابه أنهم غيروا وبدلوا. قال الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وقد أعلم الله عز وجل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه مبعوث بنسخ ما تقدم من الشرائع سوى الإيمان والإسلام، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] يريد بالنعت الذي نعت لهم في التوراة والأناجيل. وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] عرفوا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي بصفته التي وصفه بها لهم في التوراة فبدلوا وغيروا وكفروا. ويروى أنه كان من صفته في التوراة أنه أسمر ربعة، فكتبوا صفته آدم طويل. وقيل: إنهم محوا اسمه منها. فلو آمنوا بالتوراة والإنجيل على ما أنزلا على موسى وعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ لكانوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنين، وبالله التوفيق لا شريك له. .مسألة الحض على نكاح ذات الدين: قال محمد بن رشد: النهي من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: لا تنكحوا المرأة لجمالها نهي أدب وإرشاد لا نهي تحريم، إذ لا حرج على أحد من أن يرغب في نكاح ذات المال والجمال. فمعنى الحديث إنما هو الحض على إيثار ذات الدين على ذات المال والجمال. وقد جاء في غير هذا الحديث: تنكح المرأة لمالها ولجمالها فعليك بذات الدين، فقال: تنكح المرأة لمالها وجمالها على سبيل الإخبار لا على سبيل النهي، وحض على إيثار ذات الدين، وهو بين من هذا الحديث، وبالله التوفيق. .مسألة المدعو إلى الوليمة يقال له ائت معك بمن تحب: قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إذا قال له الداعي: ائت بمن تحب، أن له أن يستصحب من إخوانه من شاء، ولا يجب على المستصحب أن يصحبه إلا أن يشاء، إذ لم يقصد صاحب الوليمة إلى دعائه، فلا يلزمه الإتيان إليها على ما قاله مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب النكاح في الرجل يدعوه صاحب الوليمة يقول له: اذهب فانظر من لقيت فادعه، أن من دعاه الرسول في سعة من إجابته، إذ لم يتعمده صاحب الوليمة ولا عرفه بعينه، وبالله التوفيق. .مسألة الذي يبيع زفته ممن يجعلها في أواني الخمر: قال محمد بن رشد: ساوى أصبغ بين هذه المس ائل وقال فيها كلها إنها لا يحل شيء منها، فعلى قوله يفسخ البيع فيها كلها ما لم يفت، فإن فات حرم الثمن على البائع ووجبت عليه الصدقة به، وهو شذوذ من القول لا يوجبه القياس. وفرق غيره من أصحاب مالك بينهما. فأما بيع العنب ممن يعصره خمرا، وبيع العصير ممن يخمره، وبيع الزفت ممن يجعله في أواني الخمر فلا يجوز لفاعله، وهو آثم في فعله، ويتخرج في الحكم فيها على مذاهبهم إذا وقعت ثلاثة أقوال: أحدها أن البيع لا يفسخ إذا وقع، إذ لا فساد فيه في ثمن ولا مثمون، ويمنع المبتاع من عصر العنب وتخمير العصير إن كان مسلما، ويباع ذلك عليه إن كان نصرانيا؛ والثاني أن البيع يفسخ ما لم يفت، وإن فات مضى بالثمن؛ والثالث أن البيع يفسخ ما لم يفت، وإن فات رد إلى القيمة، إلا أن يفوت عند المبتاع بالعصر على ما باعه عليه البائع فلا يرد إليه ما زاد الثمن على القيمة ويتصدق بذلك، فإذا مضى البيع بالثمن كان على البائع أن يتصدق من الثمن بما ازداد فيه من أجل بيعه على أن يعصر. وأما كراء الدابة ممن يركبها إلى الكنيسة وبيع الكبش ممن يذبحه لعيده وكفره فاختلف في ذلك قول مالك: مرة أجازه، ومرة كرهه. وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب السلطان. وقد ذكرنا هناك وجه اختلاف قول مالك في ذلك. فعلى القول بأنه كرهه يدخل في ذلك من الاختلاف ما ذكرناه في الذي يبيع العنب ممن يعصره خمرا. وحكم بيع الطوب لبنيان الكنائس أو الزيت لوقيدها أو المرعاة للخنازير حكم الذي يبيع شاته لتذبح في أعياد النصارى. وقد تقدم ذكر ذلك، وبالله التوفيق. .مسألة اكتراء القيساريات المغصوبة أو المبنية بمال حرام والتجارة فيها: قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إن الاكتراء في القيساريات المغتصبة والمبنية بالمال الحرام والتجارة فيها لا يحل، والكسب فيها خبيث قليله وكثيره، هو على أصله في أن المال الذي يشوبه حرام حرام كله، يلزم الصدقة بجميعه، وهو شذوذ من القول وتشديد فيه. وإنما الذي يشبه أن يقال إنه ما لم يتمح منه بإخراج ما فيه من الحرام، ورده إلى أربابه إن عرفهم، أو الصدقة به عنهم إن لم يعرفهم، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئا وإن كان فيما بقي منه ما يفي بما فيه من الحرام؛ لأن ما أكل منه فبعضه حرام؛ لأنه كله مشاع، فلا يطيب له منه شيء حتى يخرج منه الحرام فيرده إلى أربابه إن عرفهم، أو يتصدق به عنهم إن لم يعرفهم. فإن كان أصبغ أراد هذا فلقوله وجه، وهو أن الحرام شائع في المال متيقن فيه حتى يخرج منه. وأما إن كان أراد المال كله يصير عينه حراما لما خالطه من الحرام فلا يطيب له منه شيء ويلزمه أن يتصدق بجميعه فهو بعيد خارج عن الأصول. والذي يوجبه النظر بالقياس، على الأصول ألا يحرم عليه شيء مما اكتسب بالتجارة في الحانوت من القيساريات المغتصبة ويلزمه كراء الحانوت، لأرباب القيسارية للمدة التي مضت، ولا يحل له المقام فيه إذا علم أنها مغصوبة، وتكره معاملته وأكل طعامه ما لم يتمخ من الواجب عليه في ذلك لأهل القيسارية من غير تحريم؛ لأن ما عليه من التباعة في ذلك متعين في ذمته لا في المال الذي بيده على الصحيح من الأقوال. وقد ذكرنا ما يجوز من معاملة من خالط الحرام ماله مما لا يجوز في مسألة ملخصة في هذا المعنى كتبتها لمن سألني ذلك من المريدين. وأما إن كان أصل القيسارية حلالا وإنما بنيت بمال حرام فليس اكتراء حانوت منها للتجارة فيه بحرام، وإنما هو مكروه لا إثم في فعله ويستحب تركه؛ لأن البنيان لبانيه والحرام مترتب في ذمته. وكذلك المسجد المبني من المال الحرام يستحب ترك الصلاة فيه كما كان يفعل ابن القاسم من غير تحريم؛ لأن التباعة في ذلك إنما هي على الباني. وقد قيل إن سبيل المال الحرام الذي لا يعلم أصله سبيل الفيء لا سبيل الصدقة على المساكين، فعلى هذا القول تجوز الصلاة دون كراهة في المسجد المبني من المال الحرام المجهول أصله، وبالله التوفيق. .مسألة الذي يريد الغزو والجهاد وله عيال وولد: قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله لمالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد؛ لأن قيامه على أهله وولده وترك إضاعتهم واجب عليه، بخلاف الغزو والجهاد في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية؛ لأن فروض الأعيان لا تترك لفروض الكفاية؛ لأن الفرض على الكفاية إذا قيم به سقط عمن سواه وكان له نافلة، ولا يصح ترك فريضة لنافلة، وبالله التوفيق. .مسألة الغاصب يغتصب السلعة فيستهلكها وماله حرام: قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا فيمن غصبه غاصب ليس كسبه إلا الغصب متاعا فلم يجده عنده بعينه فحكم له عليه بثمنه إنه لا يحل له أن يأخذه، هو على أصل مذهبه في أن من خالط ماله حرام فهو كله حرام، لا يحل أن يعامل فيه ولا أن يؤكل منه شيء. وقد مضى بيان هذا من مذهبه في سماع عبد الملك، فكيف بمن لم يكن كسبه إلا الغصب. وإنما قال إنه يتبعه به دينا رجاء أن يفيد مالا حلالا بميراث أو هبة فيجوز له عنده أن يأخذ من ذلك المال الحلال ثمن سلعته التي غصبه إياها. والذي يوجبه القياس والنظر أنه يجوز له أن يأخذ قيمة متاعه الذي غصبه إياه أو جحده إياه وإن كان مستغرق الذمة بالحرام. وكذلك لو غصبه دنانير أو دراهم أو طعاما فغاب عليه ولم يعرف بعينه لساغ له أن يضمنه في ذلك كله المثل على ما يوجبه القياس والنظر. لأنه لا يدخل على أهل بياعاته بما أخذ نقصا. وأما لو جنى على دابة رجل فقتلها أو على ثوبه فخرقه أو أفسده لما ساغ له أن يضمنه القيمة في ذلك إلا على مذهب من يرى أن مبايعة من استغرق ذمته الحرام وقبول هبته وأكل طعامه جائز لوارثه سائغ؛ لأن الحرام قد ترتب في ذمته وليس في غير المال الذي بيده، إذ ليس هو المغصوب بعينه. وكذلك لا يسوغ لأحد أن يأخذ منه أجرة في خدمته إياه، ولا لحجام إجارة في حجامته إلا على هذا القول؛ لأنهم يدخلون بذلك على أهل بياعاته نقصا. ولو كان فيما يتعلق بماله لجرى ذلك مجرى مبايعته على الاختلاف الذي ذكرناه في سماع عبد الملك، وبالله التوفيق.
|